في نكتة قديمة، يلتقي اثنان من العرّافين وبعد بضع دقائق من الصمت، يقول أحدهما للآخر: «انظر إلى المستقبل، أرى أنك ستكون بخير، لكن ماذا عني؟»
تذكرت هذه القصة عندما سألني أحد الحضور، في محاضرة عامة ألقيتها، أخيراً، في فيينا، كيف يمكن لأوروبي يتمتع بعقلية ليبرالية في الوقت الحاضر أن يكون متفائلاً بشأن مستقبل أوروبا؟
وكان السائل محقاً في وجهة نظره، ففي أعقاب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومع اندلاع الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والتعامل مع اقتصاد متعثر وشلل بسبب الخوف من الهجرة، بدأ الأوروبيون يشبهون شخصية «تشانس» في الفيلم الساخر، الذي يحمل عنوان «الوجود هناك» للمخرج الأميركي، هال آشبي، وفي مجريات الفيلم، كان «تشانس» يعيش في مأمن، حيث يقضي وقته في العناية بحديقة القصر ويشاهد التلفاز باستمرار.
وعندما تم طرده من القصر في نهاية المطاف واضطر إلى مواجهة العالم الحقيقي، هاجمه على الفور أحد «البلطجية» بسكين، وكان الرد الوحيد الذي استطاع القيام به، هو إخراج جهاز التحكم عن بُعد الخاص بالتلفزيون من جيبه ومحاولة تغيير القناة، وبذلك يتمكن «تشانس» من النجاة، لكن لا ينبغي لنا أن نعتبر مستقبل الاتحاد الأوروبي أمراً مسلماً به.
ذعر النخبة
خلال السنوات الأخيرة، كانت أوروبا مشغولة بمحاولة الدفاع عن الوضع الراهن، الذين انتهى في واقع الأمر منذ زمن بعيد، وكانت تتكلم لغة لم تعد مفهومة في هذا الوقت، لذلك خسرت الطاقة والمال في أي جهد تقوم به لاستعادة عالم لن يعود إليها مطلقاً.
وباتت الأنظمة الديمقراطية في أوروبا، على شفا انهيار عصبي الآن، فهي مهددة في الوقت نفسه بغضب الناخبين وذعر النخبة، ويحلم الناخبون بمعاقبة النخبة، في حين تتمنى المؤسسة الحاكمة أن تتمكن من تهدئة الناخبين.
القرار الأخير
ويشير القرار الأخير، الذي اتخذته المحكمة الدستورية في رومانيا، إلى إلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بسبب التدخل الأجنبي المزعوم، وربما لأن الأحزاب الحاكمة لم ترق لها النتائج، إلا أن ذعر النخب قد يصبح أكثر خطورة من غضب الناخبين، وفي الوقت ذاته، تفشل محاولات الحكومات لتعبئة الوحدة الوطنية لمواجهة التهديدات الخارجية في إقناع الناس بالتجمع حول العلم الوطني.
وتبقى الطريقة الوحيدة بالنسبة للأوروبيين الليبراليين للتغلب على تشاؤمهم هي محاولة فهم كيف ولماذا تم خداعهم بحملهم على التفاؤل المفرط في نهاية الحرب الباردة، وإلى أن يدركوا مدى خطأ هذا الانتصار الذي أطلق عليه «نهاية التاريخ»، فسيظلون مسكونين بهاجس «انهيار الأشياء».
إذلال
وإذا نظرنا إلى عام 1989، بتأمل رصين، فلن نجد أنه كان ذروة الليبرالية، بل كان في الواقع أيضاً عاماً واعداً للإسلام الراديكالي، ففي ذلك العام، هزمت أفغانستان، قوة عظمى هي الاتحاد السوفييتي لأول مرة، وتبين أن انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان كان تحولياً، ليس فقط للإسلاميين، بل للروس أيضاً.
وعندما سأل مركز «ليفادا» المستقل لأبحاث علم الاجتماع واستطلاعات الرأي في موسكو الروس في عام 2019 عن تعريفهم لعام 1989، أشار معظمهم إلى «الإذلال» الذي أحدثه الانسحاب السوفييتي، ولم يذكروا، على سبيل المثال، أول انتخابات حرة في بولندا منذ أكثر من 40 عاماً، أو سقوط جدار برلين. إن ما شكّل ذكريات الروس عن عام 1989، لم يكن نهاية الشيوعية، بل فقدان موسكو لهيبتها كقوة عظمى.
وقد يكون الرقص على لحن متغير باستمرار مرهقا للأوروبيين، ذوي العقلية الليبرالية، لكنه قد يكون أيضاً محرراً. عندما ينظر الناس بعد عقود من الزمان إلى عام 2024 فمن المحتمل تماماً ألّا يحمل انتصار ترامب أو صعود الاستبداد في جميع أنحاء العالم أي أهمية كما يبدو الآن، ويكون الدرس الذي يحتاج الأوروبيون إلى استيعابه، هو أن التاريخ «لا يتزوج من أحد»، فهو أعزب ويأخذ العديد من العشاق، لذا فلا داعي للذعر. إيفان كراستيف* *باحث سياسي بلغاري عن «فاينانشال تايمز»
. الطريقة الوحيدة بالنسبة للأوروبيين الليبراليين، للتغلب على تشاؤمهم، هي محاولة فهم لماذا تم خداعهم بحملهم على التفاؤل المفرط في نهاية الحرب الباردة.
. الأنظمة الديمقراطية في أوروبا باتت على شفا انهيار عصبي الآن.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
0 تعليق